Ads 468x60px

عاصمة جديدة... لكنْ مدنية



    لن يكون لمسألة اختيار عاصمة جديدة بدلاً من صنعاء (وهو أمر بات في غاية الضرورة) أي نتائج ذات جدوى فيما لو أغفلت الطبيعة الثقافية الاجتماعية للعاصمة الجديدة، واقتصر الأمر على مراعاة العوامل الاقتصادية والجغرافية والمقومات الأخرى، فإذا كانت المشاكل الاقتصادية الجغرافية (المادية) مثل: (المياه، والتخطيط
العمراني، والمقومات الأخرى، ) تعلن انتهاء صلاحية صنعاء كعاصمة، فإن ثمة أموراً أخرى تتعلق بالبنية الاجتماعية الثقافية... تجعل منها غير صالحة أساساً أن تكون كذلك.
يعاني اليمن بدرجة أساسية من مركزية القبيلة وهامشية ما عداها، وهذا يعود بشكل رئيسي إلى كون (صنعاء) هي العاصمة/المركز، والمركز – عادةً- يغذي الأطراف ويتحكم بها ويؤثر فيها ويطغى عليها ويجعلها امتداداً له، فإذا كانت طبيعته قبلية تقليدية –كما هو حال صنعاء- فإن الأمر سينعكس على الأطراف وسيعيق عملية التقدم في المجتمع ككل.
استقواء بعض القوى القبلية عبر تاريخ اليمن الحديث لم يكن ليصل إلى الحد الذي وصل إليه لو لم تكن العاصمة صنعاء، معظم هذه القوى وأهمها وأخطرها هي القريبة منها، إن صناعة المراكز السياسية تخضع لعوامل عدة، اتضح خلال تاريخ اليمن الحديث أن من أهم تلك العوامل التي أدت إلى صعود مراكز سياسية (قبلية) ذات ثقل ووزن ملحوظ ومؤثر، هو قربها من المركز (العاصمة)، فالمركز ينتج مراكز على كل المستويات، كلما اقتربت القوى منه ازدادت فرصة مركزيتها، وازدادت إمكانية أن تستمد قوتها منه فيما يشبه (الاحتكاك المغناطيسي).
مسألة تغيير العاصمة خطوة مهمة وأساسية في سبيل تحديث اليمن، لأن المضي نحو المدنية لن يكون إلا بالخروج من مركزية القبيلة، والتخلص من الإرث القيمي البائس، والعمل على القضاء على القيم والأنساق الثقافية والاجتماعية التقليدية والسلبية التي تعيق مسار التقدم نحو (الإنسان اليمني المعاصر) أو نحو المجتمع المدني، ولن يكون ذلك بدون تغيير مركزية صنعاء، ولعلَّ القوى السياسية التي وقفت حجر عثرة في طريق التغيير، وحتى في طريق الثورة هي القوى القبلية (القريبة من المركز صنعاء)، وفوق هذا فإن ترسخ أو تجذر القوى العسكرية/القبلية المتصارعة في صنعاء جعلها الآن أشبه بقنبلة موقوتة، أو لغم على وشك الانفجار، وجعل مسألة التحرك السياسي صعبة جداً ومحفوفة بالمخاطر، ولعلّ الصورة التي آلت إليها الثورة في اليمن والمشهد السياسي بشكل عام يبدو عليها تأثير القوى الصنعانية (أعتذر عن هذه المفردة المناطقية) واضحاً جداً، بحيث طغى على طبيعة المشهد السياسي، وهمش ما دونه، وكاد يختزل كل اليمن في الصراع بين تلك القوى...
هذا التأثير الملحوظ للعاصمة لا يقف عند صناعة أو صياغة المراكز السياسية والقوى التي تشكل جزءاً (مهماً) من الخارطة السياسية، بل يتعداه إلى منظومة القيم والأنساق الفكرية الاجتماعية، لقد اكتسبت القبيلة مركزيةً في عهد صالح لعوامل عدة منها عقلية صالح نفسه، ومنها قرب المركز من الثقافة التقليدية القبلية، وكلاهما أثَّر في الآخر أو ساعد على بقائه على ما هو عليه، وعلى تكريس المنظومة القبلية في البنية الاجتماعية السياسية في اليمن، وكان له تأثيره على الأطراف الأخرى حتى على المجتمع الجنوبي الذي كان قد وصل إلى درجة عالية من المدنية...
صنعاء مكبلة بقيود تكبح جماحها أو تخفف من مستوى تطورها وتقدمها نحو المدنية، إنها محاطة بسياج اجتماعي يمنعها من التمدد المعنوي والثقافي نحو آفاق من المدنية والتحرر والعصرنة والتحديث، نظراً لأنها تتموضع في سياق أو في وسط اجتماعي قبلي، تحكمه منظومة تقليدية من القيم والأفكار والأنساق الثقافية الاجتماعية الصلبة الجامدة، ويعاني من إرث قيمي بائس ومتكلس عبر الزمن، ويخضع لرصيد تراكمي من العنف والتوحش، رغم التباينات الطفيفة والعرضية بين مكوناته...، إلا أنه في كل الأحوال يعمل على كبح جماح التغيير في بناها الاجتماعية والثقافية، ويقلل من إمكانية خروجها لنور المدنية على الدوام، بل إنه ما يفتأ بين الحين والآخر أن يشكل تسونامي يفيض على المدينة فيجرف ما حاولت أن تبنيه لسنين في لحظات غضب (كما حدث في دخول حاشد صنعاء أيام الإمام، ودخولها أيام حرب الحصبة).
ماذا لو كانت العاصمة عدن؟ أو تعز؟ أو المكلا؟ أو إب مثلاً؟ أظن أن الفرصة ستكون مواتية أكثر للدخول في الدولة المدنية.. لأن هذه المجتمعات أكثر مدنيةً من صنعاء، فالنسيج الاجتماعي فيها، والتراكم الثقافي والمعرفي وطبيعة تكوين المجتمع ومن ثم منظومة تفكيره وأنساقه الثقافية ورصيده الحضاري أرقى بكثير، الأمر الذي سيكون له انعكاسه ليس على الدولة وشكلها -بتأثير روافد المحيط أو البيئة- وحسب، بل على المجتمع اليمني كله لأنه سيكون صدى للمركز (العاصمة) وتابعاً لها، مادامت الأطراف تخضع لتأثير المركز بالضرورة.
لم تكن الدولة العباسية تمتلك من حيث الرؤيا والفكر ما يؤهلها لإحداث تغيير في الدولة الإسلامية تتجاوز به الدولة الأموية، لكن اختيار (أبو جعفر المنصور) لبغداد كعاصمة لدولته بدلاً من دمشق(عاصمة الأمويين) شكَّل نقلة حضارية غيرت معالم الحضارة العربية الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها. ما منحها ذلك بصرف النظر عن أي عوامل أخرى، هو أنها قريبة من دولة الفرس، ومن هنا كان لعملية التأثير والتأثر أن تتم بأسرع ما يمكن، ولعملية التلاقح الثقافي والفكري أن تجد المناخ الخصب لها.
كان لأبي جعفر المنصور أسبابه في اختيار بغداد عاصمة لدولته (حينها كانت ما تزال قريةً صغيرة على ضفاف دجلة) لكن الفرق بين الدولتين الأموية والعباسية، لا يمكن فهمه أو تفسيره، أو تناوله تاريخياً بعيداً عن تأثير العاصمة (بغداد) كونها قريبةً من الفرس، لقد تغير كل شيء في شكل الدولة ودواوينها وطريقة الإدارة، في المعرفة في الثقافة في الشعر في الأدب في اللغة حتى في الدِّين والفنون...
ما يمكن قوله إجمالاً هو أن عملية التغيير لن تكون ذات أهمية كبيرة، أو لن تكتمل ولن يُكتب لها التأثير الواسع الذي يفضي إلى تحوّل حقيقي (جذري) على عدة مستويات، أفقية ورأسية، آنية ومستقبلية، إلا بخطوات مهمة وجبارة، قد تكون من بين  الأمور التي لا نوليها كثير اهتمام لكنها تعد مفصلية وذات بعد خطير وتأثير قوي قد يختصر الطرق والسبل ويوفر الحلول الناجعة والقيمة، وعلى رأسها وفي مقدمتها مسألة تغيير العاصمة، لكن مثل هذا القول يصبح نظرياً بحتاً وبعيد الصلة عن الأطروحات السياسية خصوصاً مسألة الفيدرالية، أو الأقاليم، صحيح أنها خطوة نحو تعدد المراكز، لكن سؤالاً مهماً يطرح نفسه بخصوص هذا: فيما لو تحقق ذلك (أقصد الفدرلة أو الأقلمة) هل سيكون لكل أقليم أو فدرالية عاصمة مؤهلة لتكون مركز إشعاع ثقافي وتنويري ومركز تحديث؟؟ أم أنها ستتباين تبايناً كاملاً ويتم اختيارها كيفما اتفق؟؟ مهما كان الأمر فإن مسألة المركز وطبيعته يجب أن توضع في الحسبان وألا يتم إغفالها في كل الأحوال...وللحديث بقايا..
أحمد الطرس العرامي
Ah-arami@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق