Ads 468x60px

الربيع العربي: اليمن والنظام الأبوي


    أظن أن مواصلة الثورة أو استكمالها ليس في الاستمرار على نفس النسق أو المنوال وحسب، وإنما من خلال تمثيل تيار فكري اجتماعي حيوي، يكرس العقلانية والنقد والتساؤل، وهذا يستدعي أن تراجع الثورة خطابها وتعيد تقييمه في سبيل تبني خطاب أقوى، خطاب يمثل قوة موضوعية تفكك البنى

التقليدية الراسخة في المجتمع اليمني، قوة موضوعية لا يمكنها أن تموت أو تندثر حتى لو فشلت الثورة مثلاً أو لم تحقق أهدافها على أرض الواقع السياسي بشكل كامل، لأن من شأن هذه القوة الموضوعية أن تستمر ويكتب لها التوغل في البنى الاجتماعية والسياسية لتعمل على محاولة تغييرها من داخلها وليس من خلال القشور، وهذا لن يتم عبر الشعارات الطنانة والطوباوية وإنما عبر إدراك الواقع ومعرفة إشكالياته، ولا عبر ترديد الشعارات الجاهزة والملقنة، وإنما عبر خطاب قوي واع ومسئول وحداثي ونقدي...

في مقال سابق نشرته القدس العربي تحت عنوان(الربيع العربي: فيضان الهامش على المركز) حاولت أن أقدم أشبه ما يكون برؤية ثقافية للثورات العربية تقترح توصيفاً لهذه الثورات على أنها ثورة "الهامش على المركز" حيث يمكن القول أنها تتقاطع مع ظاهرة صعود الهامش في الثقافة العالمية بما لذلك من صلة بثقافة ما بعد الحداثة وكثير من الاتجاهات الفكرية التي ظهرت مؤخراً كالتفكيكية والنسوية والدراسات ما بعد الكولونيالية والعبثية...إلخ، بالإضافة إلى العولمة وتأثيرات تقنيات الاتصال الحديثة وغياب النخب وتعزيز ثقافة الهامش ودوره، وغيرها من الظواهر السياسية والاجتماعية التي صعدت فيها الهوامش، مما يجعل من قراءة الثورات العربية في السياق نفسه أمراً ممكناً، بدءاً من دور الإنترنت فيها (هذا الوسيط الثقافي الذي يتصف باللامركزية) ومروراً بثقافتها ذات الطابع الشعبي، واتسامها بالتعددية واللاأيدلوجيا وانتهاء بتميزها بكونها ثورة الهامش والمهمشين التي اختفت معها الزعامات الثورية. لدرجة يمكن القول معها أنها ثورة على الأبوية وعلى النظام الأبوي، (ولعل ذلك يتضح أكثر من خلال ما حدث مؤخراً حين قرر الشباب المصري استئناف الثورة ضد وصاية المجلس العسكري وأبويته، مما يؤكد أنها ثورة ضد الأبوية وليس ضد شخص بعينه وإنما ثورة ضد المنظومة الفكرية السياسية المتمثلة في الأبوية) رغم أن لكل مشهد من مشاهد دول الربيع العربي خصوصياته، ففي ما يتعلق باليمن يمكن القول أن ما حدث عبارة عن انقسام المركز على نفسه، وبالتالي تحولت الثورة إلى صراع بين قوى المركز المنقسمة على نفسه، وظل الهامش هامشاً، وكان للبنى الاجتماعية والثقافية المتشابهة والتقليدية حضورها وفاعليتها في المشهد السياسي بشكل عام.
حين انقسم المركز على نفسه انقسمت معه مكوناته (الدينية، والقبلية، والعسكرية، والسياسية) وهي المكونات التقليدية للنظام أساساً، التي مازال تفكيرها يخضع لتلك البنى الاجتماعية والثقافية التقليدية، ومن هنا فقد تحول المشهد إلى صراع بين قوتين أو تيارين كل منهما يحمل الثقافة التقليدية نفسها (النظام يقمع والثورة تقمع) (خطاب النظام خطاب تقليدي وإقصائي ويسعى لإلغاء الآخر، خطاب المعارضة تقليدي وإقصائي ويسعى لإلغاء الآخر،) (خطاب النظام يوحي بأنه كان يفكر في الواقع أو في الحاضر بخلفية ماضوية" بمعنى أنه كان يقرأ الأحداث أو يفهمها ويعمل على محاولة إفهامها أو يحاول وضع المسألة في سياق محكوم بتاريخ الصراع السياسي في اليمن، المعارضة كانت تفعل نفس الشيء،) (النظام كان يكرس شخص الرئيس كصنم، المعارضة كانت تريد إسقاط الصنم دون أن تسقطه من ذهنها أو في عقليتها) (كان خطاب النظام يعمد إلى تضخيم الأمور ولم يكن يناقشها عقلانياً، كان خطاب المعارضة في المقابل خطاب تضخيم وتهويل ولم يكن عقلانياً وأحياناً لم يكن مقنعاً).
ولا يتعلق هذا بالنخبة السياسية وحسب بل بالمجتمع نفسه أيضاً الذي لم يشهد تغيراً ثقافياً ملحوظاً إذ ما زالت تسيطر عليه قيم وعادات وبنى ثقافية واجتماعية تقليدية ومتأخرة مقارنةً بالمجتمع المصري مثلاً، ولذا يمكننا القول أن الأنساق الحداثية محصورة في مساحة ضيقة مقارنة بالأنساق التقليدية التي تشكل مساحةً كبيرة من خارطة العقلية اليمنية، أو المنظومة الثقافية الاجتماعية. بما فيها مكونات الثورة التي كان لها تأثيرها المباشر على الثورة وتشكيل ملامحها، وطبيعتها. الأمر الذي جعل من الصوت الحداثي الذي تمثله شريحة الشباب أو المثقفين صوتاً ضعيفاً وخافتاً أمام سطوة الخطاب التقليدي وهيمنته، ولا يعود هذا إلى ضعف الخطاب نفسه أو ضعف مقوماته أو مرجعياته وإنما إلى تحجر أو تصلب البنى الثقافية من حوله، وهيمنة ما يسمى ب(النظام الأبوي) وحضوره الطاغي ودوره في تشكيل البنى الاجتماعية والسياسية في اليمن، هذا النظام الذي يعد نتيجة تراكم ثقافي وإرث تاريخي حمله الإنسان العربي معه من أقصى القرون، وعملت الأنظمة السياسية على الحفاظ عليه من الزوال وتكريسه، واستمداد أسباب بقائها منه.
مفهوم الأبوية والمجتمع العربي
يعود مفهوم الأبوية إلى المفكر الفلسطيني (هشام شرابي) الذي اعتمد على هذا المفهوم في تحليل وتفسير الظواهر الاجتماعية في المجتمع العربي، رغم أن شرابي - وفقاً للدكتور جمال بندحمان- كان قد (استلهم جزءاً من هذه المرجعية من أطر نظرية التحليل النفسي ومن بعض تصورات ماركس ومن بعض آراء ماكس فيبر.) إلا أنه قد يلتقي مع آراء بعض علماء الأنثروبولوجيا حول نظام القرابة ودوره في تحديد العلاقات بين الأفراد بدءاً من الأسرة ثم العشيرة فالقبيلة فالمجتمع ومن ثم يمتد ليشمل الدولة والمنظومة الاجتماعية الكبرى -كما هو الحال في المجتمع العربي- حين يبدأ من أصغر وحدة في المجتمع (الأسرة) ليشمل المجتمع ككل(الدولة). جاعلاً من هذه البنى الاجتماعية بنى متجانسة تذهب في تجانسها إلى الإفصاح عن تركيبة بنيوية تقوم عليها فيما يشبه المنظومة الواحدة الخاضعة لتأثير نظام قرابي يتحدد من خلاله دور كل فرد بالنسبة للمجتمع بما يؤمن به هذا المجتمع من قيم وتقاليد تكرس صورة الأب "القائد" وتدعم سلطته ونفوذه وتجبر كل فرد ينتمي إلى المنظومة نفسها بالخضوع والإذعان لسلطة الأب، وبحيث يعمل الأفراد في المنظومة نفسها على تجسيد سلطة الأب وتكريسها وترسيخها سواءً من خلال الخضوع المباشر لها في ما يشبه الطاعة الطفولية، أو من خلال العمل على إخضاع الآخرين وقمع كل إمكانية تمرد من شأنها خلخلة سلطة الأب، أو كسر تلك التقاليد والأعراف السائدة في المنظومة الاجتماعية...
ولا تتجلى الأبوية في نوعية ممارسات الآباء وحسب بل حتى في ممارسات الأبناء واستجاباتهم، ولا في طبيعة بنية الأنظمة البطريركية وحسب بل حتى في طبيعة البنى الاجتماعية التي تحكم المجتمع، ولا في تسلط الحكام وحسب بل حتى في استعداد المحكومين وقابليتهم للخضوع والاستكانة لمثل هكذا نظام. فالنظام الأبوي يصنع إنساناً قابلاً للسيطرة من قبل الآخرين، إنساناً لديه الاستعداد لأن يكون خاضعاً لسيطرة الآخر/ين. كما أن النظام الأبوي بطبيعته يجنح للثبات ويكرس له، ويتصف بكونه مقاوماً للتغيير، يقوم على سيادة "ثقافة العقل المغلق" التي تشكل بيئة طاردة أو رافضة لكل نقد أو تساؤل أو تفكير ينطلق من العقل، إنه نظام مغلق يفصح عنه نظام الخطاب الخاص به، الذي يبدو (بمثابته نظاماً مغلقاً بانغلاق دورة روابطه الدموية، يقوم على "التلقين – الامتثال – الطاعة – الاذعان – الاستظهار – الحفظ – الترداد - تقديس الماضي - تقديس النص".) وفقاً لعبد الرزاق عيد.
والمجتمع العربي مجتمع تهيمن عليه القيم التقليدية والانتماءات القبلية والعصبية بفعل طبيعته البدوية وترسباتها التي لم يتسن له التخلص منها أو الثورة عليها بشكل جذري، وهذه القيم ما هي إلا مظاهر للنظام الأبوي وتغلغله في بنية المجتمع، وإن كانت تختلف مظاهر الأبوية من بلد إلى آخر بطبيعة الأمر، إلا أنها بشكل عام تكاد تشكل بنية تشترك فيها المجتمعات العربية والأنظمة السياسية فيها، ويمكن القول بناءً على كل ما سبق أن الأبوية -كظاهرة تتشكل بفعل تراكم ثقافي تاريخي- ينتج عنها نوع من العلاقات بين أفراد المنظومة ومجموعة من القيم التي تتسيد السلوك الاجتماعي مثل تسلط الكبير على الصغير، الذكر على الأنثى، اللاحوار، الخضوع المطلق لسلطة الأب، القمع، تكريس صورة الأب "الزعيم القائد" الصنمية، الميل إلى الثبات ومقاومة التغيير، أحادية الرأي، رفض التعددية، عدم تقبل النقد، العصبية القبلية، الحفاظ على القيم التقليدية والمبادئ القديمة، النزعة الجماعية، كما أنها ترتبط وفقاً لفكر شرابي باللاعقلانية والعجز.
النظام الأبوي في اليمن
والمجتمع اليمني من أكثر المجتمعات العربية خضوعاً للأبوية، إذ تكاد القبيلة تطغى على تركيبته الاجتماعية، بل إن نظام الحكم الذي كان من المفترض أن يقضي على هذه الأبوية من خلال المؤسساتية والمدنية قد اعتمد في جوهره على القبيلة وقيمها ومن ثم عمل على تكريسها وترسيخها مرةً أخرى، ومن هنا فقد كان النظام اليمني نظاماً أبوياً بامتياز يتجلى ذلك في مشروع التوريث الذي كان يرمي إليه، وفي قيامه على الطابع العائلي، المناطقي، القبلي، الأمر الذي تجلى في مواجهة النظام للثورة من خلال القمع على يد الأمن والجيش أو على يد البلاطجة الذين يمثلون مجتمعين الأخوة الكبار من حيث عملهم أو حرصهم على قمع كل محاولة تمرد على الأب، الذي تكرس في صورة الصنم (القائد) الذي سينهار العالم بدونه، فالذين شاركوا في قمع الاحتجاجات (سواءً بالكلمة أو الفعل أو القرار أو التواطئ)لم تكن لهم جميعاً مصالح من النظام، بل إن كثيراً منهم من الطبقة المسحوقة، ولكن ما جعلهم كذلك هو سيطرة نسق من التفكير على ذهنياتهم، هذا النسق هو نسق الفكر الأبوي أو النظام الأبوي، لقد رأوا في المحتجين صورة الابن (العاق) المتمرد على سلطة الأب، ولذلك شاركوا في قمعه أو معاقبته، لقد كانوا هم أول المتضررين من الأب لكنهم مؤمنون بوجوب طاعته(إن الأب هو سبب وجود الأسرة وهو راعيها والأسرة خراب بعده) ولذلك فإن أبرز ما سيطر على الخطاب الشعبي المؤيد لصالح يتلخص في (لن يرحل أرحلوا أنتم) لأن الأبوية تقتضي رحيل الأبناء من البيت لا الأب، هذا الأب الذي سيقطع على الناس (الماء والكهرباء والوقود)، لأن هذه الأشياء ومثلها الطرق والجسور ومرتبات الموظفين الحكوميين، كلها إنما هي من تفضل من الأب وتكرم منه على شعبه (أبنائه) كونه هو معيل الأسرة وراعيها، هذه هي قناعاته، وهذه هي أيضاً قناعات (الأبناء المخلصين) هذا الأب الذي لم يكتف بالمدة التي هيمن فيها على البلاد (الأسرة)، بل ظل مشغولاً في التخطيط لما بعد رحيله بدافع رغبةٍ جامحةٍ في الهيمنة على البلاد(الأسرة) وتقرير مصيرها بعده وبالكيفية التي يريد.
الثورة وترسبات النظام الأبوي:
وكما أن الأبوية قد تجلت لدى النظام فإن الثورة قد كشفت عن مدى تجذر الثقافة الأبوية في الذهنية اليمنية، وترسخها في أنساق التفكير الاجتماعية والسياسية، حين عبرت كثير من الممارسات والخطابات بتنوعها عن ذلك، فإذا كانت الثورة نفسها إنما هي ثورة على الأبوية –أو يفترض بها أن تكون كذلك- فإنها لم تتخلص تماماً من ترسبات الفكر الأبوي الذي بدت أعراضه واضحةً وجليةً -الأمر الذي أربك الثورة ومزق خطابها طبعاً- فإذا كان للنظام الأبوي خصائص أو سمات تتجلى في السلوك الاجتماعي أو في الخطاب بأنواعه وتمثلاته، فإن هذه الخصائص أو السمات قد تجلت في الثورة بشكل واضح وصريح ولا يمكن إنكاره، فاللاعقلانية انعكست في (ترديد الشعارات الجاهزة).، ومكانة المرأة انعكست في (قمع النساء من داخل الساحة)، والعجز انعكس في (خطاب الثورة وهي تنادي تندد تطالب)، والعشائرية والطبقية والمفاهيم والمعايير القبلية انعكست في (عفاش، ظاهرة الخيام الموزعة على أساس مناطقي، حرب الحصبة)، والقمع الذي مارسه (الجيش المنضم للثورة) بدءاً من قمع الشباب أمام منزل النائب وانتهاءً باختطاف الصحفيين.
لقد كان للنظام الأبوي أثره داخل الثورة إلى الدرجة التي تحولت معها الثورة بشكل أو بآخر إلى سلطة لها خطابها ولها ممارساتها السلطوية من خلال الهيكلة التي انتهت إليها الساحات، والقمع الذي شهدته من داخلها، وأبوية اللجنة التحضيرية وهيمنة الصوت الواحد(ولهذا ظهرت الوقفات الاحتجاجية لشباب الثورة أمام المنصة: المنصة التي شكلت أيقونة السلطة الثورية على الثورة، وبدورها عكست الأحادية) أو من خلال دور أحزاب المعارضة وأبويتها بدءاً من التحركات السياسية قبل أن ينضموا إلى الثورة وانتهاءً بالمجلس الوطني، الأبوية التي يعكسها خطاب المعارضة أو القوى المنضمة إلى الثورة التي تركز على تبني الشباب(أبنائي الشباب)، وحرصهم على التحرك السياسي وإدارة الثورة وكأن الشباب في الساحات يحتاجون للرعاية الأبوية من قبل تلك القوى والشخصيات والزعامات.
إن من الواضح جداً أن الثورة في مصر لم تتأثر أبداً بالكاريزما الشخصية، ولذلك لم يكن هناك أبطال للثورة (أو رعاة رسميون)، أما في اليمن فإن الكاريزما كانت بعداً مهماً من أبعاد الثورة(فالقيادات الحزبية والقوى المنضمة للثورة كانت حاضرة بكاريزماها أكثر من حضور الشباب أو المثقفين الذين يمثلون الصوت أو التيار الحداثي) مما جعل الصوت الحداثي مغموراً جداً، بينما كان الصوت التقليدي هو الطاغي على خطاب الثورة، إنه الصوت الأقوى والأسير، حتى إنه عصي على التغيير، ولهذا فمهما واجه من النقد فإنه سيرده أو يلقي به وراء ظهره، ويستمر في تبني خطابه التقليدي ضارباً بأصوات المثقفين عرض الحائط، وستعلو أصوات المثقفين والكتاب ضد مظاهر الأبوية وخطابها وممارساتها ولعلي هنا أستحضر بعض هذه الأسماء أمثال(أروى عثمان، نبيلة الزبير، عبدالكريم الخيواني، فكري قاسم، محمد المقالح، محمد العلائي، محمود ياسين، نبيل سبيع، محمد عايش، بشير زندال، فتحي أبو النصر، علي جاحز، نجيب الورافي، علي ربيع،).سواءً على صفحاتهم في الفيس بوك أو من خلال كتاباتهم الصحفية، منتقدين لمظاهر الأبوية كل بطريقته، وستتعامل الثورة مع هذا النقد الموجه للأبوية بأبوية أيضاً، من حيث التخوين والقمع أو الرفض ووووإلخ، مما يشي بتجذر الإشكالية واستعصائها، إذ أن الثورة لم تستفد من ذلك النقد –كما استفاد منها النظام- فما زالت تلك الظواهر التي كانت تنتقد في الأيام الأولى هي تلك التي يمكن أن تنتقد الآن، لقد بدت الأنساق التقليدية قوية وصلبة ومقاومة جداً للتغيير، ومن هنا تبدو الفترة القادمة صعبةً أمام المثقفين وأمام قوى التغيير الحداثية وفقاً لرأي الصديق ريان الشيباني. خصوصاً أن مجموعة من الكتاب والمثقفين صاروا يبررون تلك الممارسات ربما بحسن نية، إذ لا نشك في وعيهم السياسي والاجتماعي والثقافي المتقدم والحداثي، إلا أنه يمكن القول أنهم يمثلون ما يسميه إدوارد سعيد ب(الموقف النصي) الذي قد يفضي إلى جدلية مركبة، يحددها سعيد ب"جدلية الدعم" (ومعناها أن ما يقرأه القراء يحدد ما يخبرونه في الواقع، وهذا يؤثر بدوره في الكاتب فيجعله يتناول موضوعات حددتها سلفاً خبرات قرائه) (الاستشراق: ص171).
لعل من أهم الأسباب التي تجعل من حاجة المجتمع اليمني للقيام بثورة على النظام حاجةً ملحةً وضرورية، هو أن هذا النظام كرس الأبوية كمنظومة تفكير، حين اعتمد عليها في فرض سلطته وتقوية دعائمه ومنحه الاستمرارية، ولعل الثورة إنما كانت في الأساس ثورة على الأبوية وقيمها وقواها وتجلياتها، ومن الطبيعي إذن أن تكون الثورة في جانب من جوانبها ثورة ضد القبيلة والرأي الواحد والإقصاء والوصاية وكافة مظاهر الأبوية، فالثورات إنما هي ردة فعل على هذه الأنظمة الأبوية ومحاولة لنسفها، كما أنها ليست ثورة ضد فرد أو مجموعة من الأفراد، وإنما ضد منظومة ثقافية واجتماعية وفكرية راسخة تتجسد في مجموعة من الأفراد أو في ممارساتهم أو ما هم عليه، هذه المنظومة هي التي تنتج أنظمة ذات طبيعة استبدادية تسلطية فردية، من الطبيعي أن تسعى إلى تكريس نفس قيم المنظومة، لأن وجودها بطبيعته إنما هو تجسيد لتلك القيم والأنساق، ومن ثم فإن استمرارية وجودها تتوقف على مدى بقاء تلك القيم والأنساق على قيد الحياة، فإذا لم تضع الثورة نصب عينها هدف نسف تلك المنظومة التقليدية وخلخلتها بمعنى أن تناهض الأبوية والصنمية كفكرة أينما تجسدت وكيفما تجسدت، سواءً في الحاكم أو في الشيخ أو في عالم الدين أو في المفكر أو في السياسي، فإن تلك الأبوية التي أنتجت الطاغية من شأنها إن بقيت على قيد الحياة أن تنتج طغاةً آخرين، ولعلّ مثل هذا الكلام قد قيل من قبل ومازال يقال ولكن أين أثره؟؟!!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق