Ads 468x60px

الربيع العربي: فيضان الهامش على المركز


   ثمة نقاش يدور في أروقة الفلسفة والفكر والاجتماع والأدب والثقافة حول ما بعد الحداثة يتركز كثير منه في كون فلسفة ما بعد الحداثة جاءت كردة فعل للحداثة أو امتداد نقدي لها، تقوم على أسس فكرية وفلسفية واجتماعية من أهمها فكرة إلغاء المركز ونسف المركزية وإسقاط الصنمية في
السياسة والدين والفلسفة، وتدعو إلى الاحتفاء بالهامش والاهتمام به، وذلك بفعل أو بتأثير ما أفرزته فلسفة العصر بما شهدته من محاولات للقضاء على المركزية كما فعل نيتشة الذي عاد إليه فلاسفة ما بعد الحداثة ومفكروها، ومن ثم ما قدمته كثير من النظريات والاتجاهات المعرفية المابعدحداثية بهذا الخصوص مثل التفكيكية، والعبثية، والنقد النسوي، والدراسات ما بعد الكولونيالية، والنقد الثقافي، والتي ركزت على إسقاط المركز لصالح الهامش، والثورة على الأبوية بكل أشكالها وتجلياتها، والثورة على النسق، وإقصاء النخبة والنخبوية، والاحتفاء بالتحول والتعدد، والإصغاء لكل ما هو عابر وهامشي، وإعادة الاعتبار لكل ما كان ينظر إليه نظرة دونية...وعلى سبيل المثال يدور الحديث في النقد الأدبي عن الحال التي وصلت إليها علاقة النص بالمؤلف، فعوضاً عن فكرة(موت المؤلف) هناك ما يشير إلى تقدم النص خطوتين إلى الأمام وتأخر الناص/المؤلف خطوتين إلى الوراء، بمعنى أن النص هنا أهم من الناص، النص الذي ظلم على مدى التاريخ وهمش لصالح مؤلفه، ها هو يأخذ بحقه من المؤلف، ولعل هذا يتجلى من خلال قصيدة النثر من حيث أنها قائمة على الانتصار للهامش بدءاً من النثر الذي هو هامشي في مقابل مركزية الشعر وانتهاءً باشتغالاتها على كل ما هو هامشي أو له علاقة بالهامش سواءً من حيث المضمون أو اللغة...
   وهذا الاتجاه نحو إلغاء المركزية والاحتفاء بالهامش اتجاه عززته تقنيات الاتصال الحديثة والتي عملت على إحداث تغيرات غير عادية في المنظومة الثقافية وفي بنيتها ومكوناتها وتشكيلها...ففي عالم الإنترنت تراجع دور السلطة في الرقابة على المنتجات الثقافية، ومعه اختفى دور النخبة المثقفة، فبعد أن كانت الثقافة تصنعها النخبة، أو على الأقل تمر عبرها، لم يعد لها الآن تلك اليد الطولى في التحكم بالثقافة، وبعد أن كان الفرد يجد نفسه أمام خيارات محدودة في تلقي المنتج الثقافي، صار الآن يمتلك عدداً لا محدوداً من الخيارات،لم يعد يفرض عليه المنتج الثقافي فرضاً، إذ في وسعه الآن الانتقاء من بين ركام المعلومات ما يسد حاجته أو ما يظن أنه كذلك، هكذا صارت الخيارات متاحة أمام العامة في تلقي الثقافة لا بل لقد أصبحت العامة هي من تصنع الثقافة، ومن هنا يتميز الإنترنت بشعبيته أو بطابعه الشعبي الذي غدت معه النخب شبه معزولة بينما الهوامش تتواصل ببعضها البعض، لقد فتح الإنترنت فضاء حرية أوسع أمام الفرد، فانتهت المركزية في الإعلام والثقافة وأصبح بمقدور كل إنسان أن يكون صحفياً....
   وبالنظر إلى الثورات العربية فإننا نرى أن ثمة علاقة لما يحدث بثقافة ما بعد الحداثة، وهو أمر يطرح سؤالاً مهماً وخطيراً: هل دخلت الثقافة العربية أو الشعوب العربية مرحلة مابعد الحداثة؟؟ لا أظننا هنا بصدد الإجابة على هذا السؤال بقدر ما نود الحديث عن ثقافة ما بعد الحداثة والثورات العربية في ما يشبه المقاربة أو قل محاولة قراءة ليست بالضرورة نهائية أو صحيحة، بقدر ما هي محاولة بما تتصف به المحاولة بطبيعتها من خضوعها لاحتمالية الخطأ أو الصواب.....
   لم تكن الثورات العربية ممثلة بتونس ومصر وحركة الاحتجاجات التي تلتها في كثير من البلدان العربية لم تكن ناتجة عن مصادفة محضة أو تقليد أو محاكاة للنموذج الأول(تونس)، بل سبقتها عدد من التغيرات الثقافية والفكرية والاجتماعية والمتطلبات السياسية والإنسانية والحياتية للمجتمع العربي، التي شكلت مقدمةً لتغيرات حتمية في الأنساق الثقافية وفي منظومة القيم وأنماط التفكير، تقود بدورها إلى تغيرات في الفكر السياسي، والمفاهيم التقليدية للسلطة والسياسة وعلاقة الأنظمة بالشعوب، أو علاقة الحكام بمحكوميهم....لقد شهدت الذهنية العربية إلى حدٍّ ما تغيرات في أنساق التفكير، وصعدت ثقافة مابعد حداثية تركز على إعلاء الهامش وإلغاء المركز، في النقد والفكر والأدب، وعلت الأصوات المنادية بكسر التابوهات الثلاثة، فتصدى بعض المفكرين والكتاب لنقد الدين والخطاب الديني، وظهرت كثير من الأعمال الأدبية التي تولي الهامش عنايةً كبيرةً، وازدهر الأدب النسوي، وقصيدة النثر، ووسعت الفضائيات العربية من انتشار ثقافة الهوامش، بينما النخب تكتب لبعضها البعض،  وظهر جيل جديد شكل الانترنت ثقافته المتسمة بالقطيعة مع التراث والقطيعة مع الآباء، لقد وجد هذا الجيل في الانترنت متنفساً يعلن به عن نفسه، بعيداً عن وصاية المجتمع، وسلطة المؤسسات القمعية، سيكفر بكل هذه الأشياء، سيغير النت نمط تفكيره أيضاً، سيمتلك لغته الخاصة التي يتمرد فيها على كل شيء على الدين واللغة وحتى على المسلمات، لن يوقفه شيء عن كسر التابوهات...والثورة على الأبوية...
ومثلما غير الإنترنت ثقافة الجيل ورؤيته للعالم سيعمل الإنترنت -ومعه تقنيات الاتصال الحديثة الأخرى إلى جانب مجموعة من العوامل الأخرى- على إعادة توزيع الأدوار ورسم خارطة القوى، وصياغة طبيعة العلاقات القائمة بين ما يسمى بالمراكز والأطراف، فبعد أن كانت دول المشرق العربي تمثل مركزاً للثقافة العربية وعلى رأسها مصر بينما تمثل دول المغرب العربي دول الهامش، ها هي الأدوار تتبادل والمواقع تتغير، فتتجلى في الوطن العربي ملامح ثقافة جديدة ومشهد معرفي جديد تساهم في رسمه دول المغرب العربي إسهاماً كبيراً...يتزامن مع هذا صعود دول أخرى كانت هامشية لتلعب دوراً مهماً في المشهد السياسي والثقافي العربي.
انطلقت الثورات العربية من الهامش، والمحقق أنه منذ سبرتاكوس وحتى تشي جيفارا والثورات تنطلق من الهامش، فما الذي يميز هذه الثورات ويجعلنا نصفها بأنها ثورة الهامش على المركز؟؟ لعل هناك مجموعة من العوامل التي تجعلنا نقول ذلك، في مقدمتها أن ثورات الربيع العربي لا تخضع لأي أيديولوجيا...باعتبار الإيديولوجيا: (نسق من التمثلات من صور وأساطير وأفكار وتصورات حسب الأحوال، يتمتع داخل مجتمع ما بوجود ودور تاريخيين)كما يعرفها لوي ألتوسير. بالإضافة إلى أنها-أعني الثورات العربية- قائمة على التعددية التي تشكل بنيتها الأساسية التنوعية، ولعل النزعة التعددية للثقافة تأتي في مقابل النزعة المركزية التي يتصف بها النظام، ومن هنا فإن الأنظمة كثيراً ما تتوسل بخطاب "الوحدة" الذي تستعمله كغطاء للنزعة الفردية/الواحدية، لأنها تخاف من الاختلاف فتظل تلوح بشبح ما تسميه ب"التمزق" و"التفكك"و"الانقسام"، وهو ليس في جوهره سوى النزعة التعددية، ولهذا من الطبيعي أن تظهر في ظل الثورات العربية بوادر تفاعل اجتماعي ثقافي ديني....إلخ، ومن الطبيعي أن يقبل كل طرف بالآخر على نحو تدريجي، لأن الجميع يتعلمون مبادئ الاختلاف والتعددية والقبول بالآخر في ظل مفهوم جديد للوحدة القائمة على التنوع والتعدد، وليس الوحدة المختزلة في شخص واحد(الحاكم)، أو مجموعة صغيرة(النظام).
ستتميز ثورات الربيع العربي لأنها تتزامن مع توجه عالمي نحو إلغاء المركزية على كل المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وكأن ما يجري الآن هو عملية استكمال لما قام به العالم من نسف للمركزية في الثقافة والفكر والأدب والفلسفة والدين والسياسة، وهو ما تأخر عنه العرب، أو تخلفوا عن هذا الركب، وها هم الآن يلحقون به....فتنطلق ثورة الهامش الشعبي على المركز السياسي، بينما "بوعزيزي" هذا الإنسان الهامشي هو رمز الثورة وشرارتها التي ستشتعل في تونس ومنها إلى عدد من البلدان العربية تكسر الأصنام وتعصف بعروش الطغاة، وسيلعب فيها الانترنت دوراً خطيراً وسيكون جيل الانترنت هو صاحب هذه الثورة وستحمل توقيعه، جيل الانترنت الذي يمثل الهامش المحاصر المخنوق الذي هرب إلى عالم النت من قمع السلطات وحصار المركز، وأبوية المجتمع، وسيكون الانترنت هو فضاء الحرية الأوسع بعيداً عن سطوة الأنظمة وقمع الحريات وتضييقها...
على الأرجح لن يكون لهذه الثورات مركزاً فمركزها هو عالم النت الذي يتسم بكونه عالماً تشعبياً شبكياً فضائياً (لامركزياً)، ومثلما هو الحال بالنسبة للأدب في عصر الإنترنت و(موت المؤلف) الذي لم تعد تظهر فيه زعامات أو رموز أدبية أو أدباء أعلام، سيكون مما يميز هذه الثورة أنها لن تنتج أبطالاً أو ثواراً يمكن أن يكونوا رموزاً للفعل الثوري كما يحدث على مرِّ التاريخ، فصناع الثورة هم الشعب، ليس هناك قادة أو أقطاب للثورة، وإن لمعت بعض الأسماء فإنها أسماء قادمة من الهامش، من الناس البسطاء من عامة الناس، هذه الثورة التي هي في الأصل جاءت لكسر الصنمية، ونسف المركزية، الثورات التي يصنعها الهامش... ستبرز تجلياتها للعيان على أكثر من مستوى فمصر التي كانت مركزاً للثقافة العربية، ها هي تتأثر بأحد الأطراف وهي تونس، هذه الأخيرة انطلقت شرارة الثورة فيها من إحدى مدنها الصغيرة والثانوية، وهي مدينة"بوزيد"ويكفي أنها ليست العاصمة لتكون"هامشاً"، وستتلاحق الثورات العربية في البلدان الأخرى بينما الهوامش تلعب فيها دوراً كبيراً، فمن بوزيد، إلى بنغازي، إلى تعز، إلى درعا...
ثقافة الثورة(ذات الطابع الشعبي) أيضاً ستمثل أحد ملامح هذه الثورة الدالة عليها، ففي ظل تقنيات الاتصال الحديثة لم يعد للنخب ذلك الدور الكبير في تشكيل ثقافة الجماهير أو توجيهها -كما قلنا سابقاً- وهو أمر يبدو جلياً في كثير مما تقوله الثورات العربية وهي تكشف عن تلك الهوة بين النخبة والجماهير، ولعل موقف جابر عصفور كان نموذجاً للمثقف الذي أغراه بريق ما في أن يقف في الجانب الآخر منها أو المناقض لها، ولعل آراء بعض مثقفي الطليعة أو الرواد التي تقدح في الثورة دليل كاف على ذلك، عوضاً عن أن عدداً من المثقفين إذا لم يقفوا في وجه الثورة فقد وقفوا مشدوهين مذهولين عاجزين عن استيعابها أو توصيفها، وحين يكتبون سيكتبون من وحيها، بل من وحي جماهيرها كما لو أنها نص شعري كسر أفق التوقعات ولعب على عنصر المفاجأة فاتحاً فضاءاته لإغراء التأويل وتعدد القراءات، بينما هو في الأصل يرتكز على البساطة كالتي تفيض بها الساحات المحتشدة بالثوار(من البسطاء، والعامة، والفقراء، والهامشيين، والمقموعين، والعاطلين، والطلاب، .....إلخ) الذين يصنعون ثقافة هذه الثورة كما صنعوا الثورة نفسها، لن يشكل الأدب الفصيح أو الرسمي شيئاً من حيث الكم أمام الأدب الشعبي وفنونه التي تتخلق داخل الساحات وفي أحضان الثورة، عوضاً عن الثقافة الشعبية والفنون القولية الأخرى، بل حتى الخطاب الثوري، وحضور اللغة العامية....وغيرها من العلامات التي توحي بأن الثورة بنت الهامش في معظم تجلياتها وملامحها...
وبما أن الثورة بنت الهامش فلن تنتظر أدونيس -لأنها قد لا تعرفه أصلاً- حتى يظهر في قناة العربية يتحدث منتقداً إياها لأنها تخرج من المسجد، واصفاً إياها بالأصولية، -ولعل أدونيس كان يتحدث عن سوريا على وجه الخصوص- مع أن الملاحظ أن دور المسجد هنا لم يعد ذلك الدور المحوري، فيما عدا أنه مكان للتجمع، وأن يوم الجمعة إنما هو يوم إجازة سيستغلها الناس للخروج في الاحتجاجات، أما الثورات فإنما خرجت من الفيس بوك أصلاً، فلو كانت أصولية لا شك أنها ستكرس لقيم أصولية، وهو ما لا وجود له في الثورات العربية، التي كانت منطلقاتها أو الأفكار التي انبنت عليها هي قيم عصرية جديدة، من مثل الحرية والعدالة والمساواة، والفصل بين السلطات، والمدنية، والديمقراطية، وحرية التعبير، ولعلّ خطاب الثورات في كل البلدان العربية التي شهدت احتجاجات وخرج فيها الناس إلى الشوارع، كان خطاباً مختلفاً بل قل إنه يضرب بالخطاب التقليدي عرض الحائط، وها هو الخطاب الديني يبدو واهياً خافتاً إلى الحد الذي لم يكن يتوقع أبداً...وعلى سبيل المثال في اليمن ورغم أن المجتمع اليمني من أكثر المجتمعات محافظةً، ورغم أن قاعدة الإخوان المسلمين كان لها حضورها في الساحات، إلا أن الخطاب الديني لم يكن له أي وجود، بل إن موجةً من النقد تلقاها علماء الدين لم يكن أحد يتوقعها، ولعله من الواضح أن الخطاب السلفي كان يثير السخرية وأحياناً القرف وهو يتحدث عن عدم جواز الخروج على الوالي....لقد كانت تحرك الناس الفتوى الدينية، الآن ما يحرك الجماهير يكاد يكون لا صلة له بالدين وإنما بالحياة المدنية، لم تؤثر فتاوى رجال الدين في الثورات، كما لن تؤثر أيضاً فتاوى بعض المثقفين...لأن مصيرهما لن يختلف كثيراً عن فتوى النظام السياسي وخطابه السلطوي، لأن الثورة في معنى من معانيها إنما هي انبثاقة وعي هائلة، وكتلة ضوء كبيرة، لذا سيكون أول عمل تقوم به هو تعرية الخطاب السياسي للأنظمة الاستبدادية وتفكيكه وإبداء هشاشته.
ورغم هذا كله إلا أنه يمكننا القول أنه من الطبيعي جداً ألّا تتجلى جميع الثورات العربية على أنها(ثورة الهامش على المركز) في كل تفاصيلها وبشكل مطرد في كافة البلدان العربية، وذلك يرجع إلى كون هذا الأمر متعلقاً بالذهنيات نفسها وبالثقافة ومدى تغيرها وتجددها بفعل عوامل التغيير والمؤثرات العصرية، فالواضح أن لكل مشهد خصوصيته التي يتميز بها عن غيره، فما يمكن قوله عن مصر وتونس لا ينطبق تماماً على اليمن، فإذا كان الهامش في مصر قد ثار على المركز فتفكك المركز تماماً وأخلى الساحة للهامش وهذا ما يتجلى في معظم تفاصيل الثورة وجزئياتها، فإن المشهد في اليمن يختلف بالطبع، حيث انقسم المركز على نفسه، ومن الملاحظ أن هذا الانقسام قد حدث ليشمل جميع مكونات المركز، فانقسمت القبيلة على نفسها، والقوى الدينية، والنخبة السياسية، وشيئاً فشيئاً تحول الصراع بين أطراف المركز، بينما الهامش الذي في البداية كان قد بدأ في الظهور ما لبث أن عاد هامشياً حتى في الثورة نفسها، وإذا كان هناك شيء من الثقة بالنفس التي ولدتها ثورتا مصر وتونس، فإنه الآن قد ضاع ما بين صراع طرفي المركز أو قوى المركز الجديدة المنقسمة.
وإذا كان هذا بعضا مما يميز المشهد في اليمن فإن لكل مشهد في الأقطار العربية الأخرى خصوصيته نتمنى أن تمكننا الأيام القادمة من الوقوف عند كل مشهد نستجلي خصوصيته، وندرك بنيته وعوامله الذاتية، وملامحه المختلفة في كتابات قادمة بإذن الله.
أحمد الطرس العرامي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق