Ads 468x60px

الرئيس يستمر في الغناء

  يقول نيتشه: (من يحتقر نفسه مازال يحترم نفسه بوصفه محتقراً)...ترتبط هذه المقولة في ذهني ارتباطاً يكاد يكون شرطياً بشخصية علي عبدالله صالح، وإن كنت لا أجزم لسبب أو لآخر أن الرجل يحتقر نفسه فعلاً، إلا أنه على الأقل يعرف أنه غير مرغوب فيه، ورغم هذا ما زال يتظاهر بالاحترام لنفسه، أو يقاوم
الشعور بالمقت الذي يكنه -مع الآخرين- تجاه
ذاته...
   في عام 2008م وفي مهرجان جماهيري شعبي جاءت إليه الوفود من أكثر من خمس محافظات تقريباً، أو بالأصح جيء بها إلى الأستاد الرياضي في عدن، لن أنسى ذلك الموقف ما حييت، حين تراشق الجمهور بعلب الماء البلاستيكية، لحظة بدأ زعيم الأمة يلقي خطابه فيهم...كما لن أنسى صيحات السخرية والاستهجان التي أطلقها الجمهور أثناء ما كان الرئيس يتحدث، شعرت بالخجل الشديد أو قل بالشفقة لزعيم الأمة، وأصبت باكتئاب طوال اليوم، وكنت أقول لزملائي من الشعراء والأدباء والشباب الذين وجدنا أنفسنا فجأةً نحضر هذا الحفل الكريم، كنت أقول: ماذا يحتاج رئيس جمهورية من منصبه إن لم يحصل على الاحترام والتقدير ولو شكلياً على الأقل؟؟!!!
   هناك قصة مشهورة حدثت لأحد الفنانين اليمنيين، على الأرجح هو علي حنش، حين أتى به أحد القادة العسكريين لإحياء أمسية فنية في أحد المعسكرات، وحين سئم الناس منه، أو قل لم يقاوم الحضور رداءته فرشقوه بالأحذية لكنه لم يتوقف عن الغناء، بل رد عليهم وبنفس اللحن الذي كان يعزفه قائلاً: "قدو بأمر الدولة"...."قدو بأمر الدولة".
  لا أدري ما الذي يجعلني غير قادر على تخيل اللحظة التي سوف يعلن فيها التلفزيون اليمني أن الرئيس اليمني سيلقي خطاباً للأمة، ثم حين يحين الموعد، وتقطع وسائل الإعلام برامجها ونشراتها الإخبارية لتبث فيها كلمة الزعيم، يقف الشعب بل والعالم أجمع محدقين إلى الشاشات، مصغين لكلمة الرئيس التي تأتي على خلفية الاحتجاجات الشعبية المطالبة برحيله...كما لا يمكنني أن أتخيل الرئيس اليمني الزعيم علي عبدالله صالح يصعد إلى المنصة ليلقي خطاباً في شعبه بتلك النبرة التي كانت تسيطر على مبارك أثناء إلقاء كلمته بما توحي به من إرتباك وخجل خفيين يحاول مبارك أن يتغلب عليهما، ناهيك عن تلك اللغة الذكية حتى بما فيها من مرواغة، ثم لا يمكنني أن أتخيل أيضاً، أن يصعد علي عبدالله صالح ليقول للشعب فهمتكم كما فعل زين العابدين...لن يظهر الرئيس مخاطباً الشعب بشكل مباشر دون وسيط سوى عدسات الكاميرا، إنه يخاف أن ينفرد به الشعب، سيبتكر علي صالح مناسبة لكي يتحدث إلى الناس، كحفل عسكري، أو مهرجان شعباوي، أو اجتماعاً حكومياً، أو مؤتمراً صحفياً يحضره أربعة صحفيون من زحل أو من كوكب المشتري، لن يجسر علي صالح على مخاطبة الشعب وجهاً لوجه، ليؤكد بذلك أنه زعيم شلة أو مجموعة، وليس زعيم أمة كما تسول له نفسه ونفس يحيى الراعي...
  رغم التشابه الكبير في بنية الأنظمة العربية الاستبدادية والذي كشفت عنه الثورات العربية، إلا أن لكل نظامٍ خصوصيته، سواءً على مستوى الخطاب أو الممارسة، ولعلنا نجد أن هناك بنيتين أو شكلين من أشكال الخطاب السياسي الاستبدادي في مواجهة الثورة، الأول يتجلى في حالة بن علي ومبارك، وهذا الشكل يمكن وصفه بأنه خطاب مسئول، أو أنه نظام استبدادي واعي، يعي ما يقوم به، وحجم وأهمية السياق الذي يتحدث فيه، أو مقام الخطاب نفسه، والثاني يتجلى في حالة القذافي وصالح، وهذا الشكل يمكن تسميته بالخطاب  اللاخجول، وهو نقيض الأول من حيث أنه لا يعي حجم الحدث، ولا مقام الخطاب ولا سياقه...ولنفترض أن بنية النظام المصري تتطابق مع بنية النظام اليمني، ولنفترض أن كل الظروف متشابهة تماما، من حيث المؤسساتية، والظروف والأوضاع، لا أظن والحال هذه أن مبارك سيضطر إلى الكذب مثلما فعل علي صالح، أو للمراوغة المكشوفة التي يمارسها صالح، صالح الذي يكذب ثم يداوي كذبته بأخرى، وهكذا دواليك، لدرجة أن كل كلمة يقولها تكاد تحمل نقيضها داخلها، متجاوزاً بذلك (الترقيع بالصميل) كما يقول المثل الشعبي إلى الترقيع بجمرة.
  لن يجسر علي صالح على مخاطبة الشباب في الساحات، وسيتجاهلهم تماما، وحين يظهر على الشاشة متحدثاً سيبتكر أمريكا وإسرائيل تارةً، وتارةً المشترك، وتارةً ثالثةً حميد الأحمر، ورابعة  الانقلابيين، وخامسةً القاعدة، وسادسة وسابعةً إلى أن يفقد كل الوسائل أمامه، فلا يجد إلا الزياني، فيتهمه أنه لم يعامله باحترام...وقبل هذا وبعده مازالت أصوات الشباب تعلو وتعلو وتعلو، بينما علي صالح يضع أصابع عبده الجندي في أذنيه، وحين تعجز عن منع الأصوات القادمة من الساحات، سيضطر لفتح صندوق موسيقى الحرس الجمهوري الذي أهداه لابنه ذات يوم، وهو في هذه الحالة كمن يحاول أن (يغطي الـ.... بالحنحنة) كما يقول المثل الشعبي، دون أن يمل أو يخجل من حديثه المكرور عن النظام والقانون والشرعية الدستورية، ودون أن يضطر لتغيير اللحن الذي طالما ظل يعزفه بل سيستمر في الغناء:(قدو بأمر الدولة....قدو بأمر الدولة)...
أحمد الطرس العرامي