Ads 468x60px

ضريح الثقافة الوزاري


ضريح الثقافة الوزاري
في شارع المطاعم تسمع كلاماً كثيراً على نحو "ثقافة" و"مثقفين"، "ونزل يا ليد"، بينما تجد محمد القعود في المقهى كجزء من روتين "مدهش" الذي يقدمه للزبائن، في ساحة الوزارة يعلو صوت علوان الجيلاني بلكنته التهامية وحماسه الذي لم يفقده طوال هذه السنين، مجموعة مثقفين يبدون بحالة إنهاكٍ شديدٍ بفعل القراءة والبؤس معلقة رؤوسهم
على أجسادهم الهزيلة وهم يتلقفون الكلام من فم فتاةٍ لا يبدو أن في حقيبتها الكثير منه، لكنك تراها من الخلف فيشدك حجابها الذي أنهكه الوردي وهو يقاوم "كعكة" الشعر التي تشبه نتوء الخيام في ساحة التحرير المجاورة، حافظ على المشهد بجماليته، وعلى الفتاة في تمام العشرين من عمرها، لا تصدر أي جلبةٍ تجعلها تلتفت إليك سيكلفها ذلك ثلاثين سنة إضافية، وموازنة وزارة بحالها مسفوحة في وجهها على شكل مكياج.
لا شيء يدعو لكتابة قصيدة غزل إذن، لا شيء يستدعي النعي أيضاً، يكفي قتل القصائد والتهاويم والهواجس التي بداخل أي شاعرٍ قراءة وضجيجاً بعمق صمت مقبرة، لا يوجد خارج هذا ما يمكن أن يعول عليه، لا تحولات كبرى، ولا ثورة ثقافية، ولا ثورة مش ثقافية، لا عبدالله عوبل، ولا هدى أبلان، لا مجلة الثقافة المريضة، ولا قرارات الرئيس المتعلقة بالجانب الثقافي حين تبدو كما لو كانت خلطة مطبعية.
رئيس الجمهورية لا يحتاج دعوةً منكم  ليولي عنايته بالثقافة، هو يعرف أنها بحاجة إلى عناية مركزة، ولا يمكن أن تعالجها بعض القرارات التي أنجزتها طابعة دار الرئاسة، كتعيين مستشار، أو نائبة للوزير، (أتمنى ألا تكون نائبةً فعلاً)، ولا حتى ذلك القرار الجمهوري بتحويل تعز إلى عاصمة ثقافية، الأمر لا يحتاج لقرار سياسي، ما جدوى قرار سياسي فقط.. دون بنية تحتية دون مشاريع دون موازنة، دون خطط، دون معنى!!
المؤسسات الثقافية، تعاني من حالة بؤس وسوء تغذية، تجعلها تبدو كسيارةٍ معطلةٍ بقي منها الهيكل "البودي" مرميةٍ في حوش المرور، وما تقدمه وزارة عوبل _كوزارة المفلحي من قبله_ لا يتجاوز "مرتبات" لموظفيها، وبدل سفر ونفقات للجن، مش عارف أيش اللي بيحصل، لكني أثق في أن السياسي يطمئن إلى هذه المسلمة: الثقافة لا تكلف شيئاً، لا بنية تحتية، ولا مشاريع ولا موازنات ولا حتى احترام للمثقف وهو يدفع كل لحظةٍ ضريبة هذا الخطأ الوجودي.
عبدالله عوبل القادم من اليسار المفكر، لم يفكر بعد، أو أنه يفكر خارج الفكر شارد في أرض الله، لم يقدم شيئاً ملموساً حتى الآن، وغارق في دوامة المشاكل داخل الوزارة، كما لو كان يريد مجاراة موظفيه بدلاً من قيادتهم أو تقديم مشاريع ثقافية حقيقية تليق بخطابه الثقافي الذي أدهشني به وهو يتكلم عن الفكر وعن المنظومة الفكرية والثقافية بخلفية قارئ يساري، قبل أن يصدمني في لقائنا به إثر مطالباتنا المتكررة بخصوص "إرث البردوني" حين بدا كما لو لم يكن يفهم شيئاً، وهو حتى الآن لم يفعل شيئاً بخصوص طباعة "أعمال البردوني" وتحويل بيته إلى متحف، كما كان قد وعد، ويبدو أنه لن ينجز ذلك إلا بعد تحويل مبنى الوزارة إلى قبر، بل لقد أصبح قبراً، وأكثر.
تدخل وزارة الثقافة فتشعر بالبرد المنبعث من البلاط الحجري، ممر أو صالة مستطيلة تذكرك بشيءٍ ما، ربما بمدرسة القرية المهترئة، أو ب"الريشة"/الجزء السفلي من مباني القرية المخصص للحيوانات ومخلفات النبات، أو بصورة ذهنية غامضة لحقل كنايات مأهول بالتعب، تقفز إلى ذهنك صورة صالة أحد المستشفيات في أفلام الرعب لولا السواد الذي يخيم هنا والظلام، كل شيء هنا متآلف، صور عبدالرحمن الغابري المعلقة على الجدران وحدها الغريبة، ستجهد نفسك وأنت تبحث لها عن دلالةٍ في هذا السياق فلا تجد. كل ما هنا يشعرك بخيبة هائلة، كتلك التي جعلت حالات ثقافية وأدبية مجنونة تستسلم لوطأة الحياة وحماقة الجهل السائد وتلقي بأقدامها في وجه الشارع، غير أن نفحة هدوء عجيبة تستقر وحدها في المكان، ذلك كل ما تحتاجه وزارة ثقافة كهذه حيث يمكن أن يكون الموظفون في حالة تفرغ أدبي، والوزير في زاوية ما منهمك في كتابة عمل روائي سيؤلب عليه العتمة والمشائخ.
التحرير آهل بالخيام المهجورة ورائحة البول، تتساءل هل هذا هو المكان المناسب الذي رأى القدر أن ينصب مبنى لوزارة الثقافة فيه؟! يشعرك بعض المثقفين أن عليكَ -كملعون بالكتابة- أن تزور الوزارة بين الحين والآخر، كما كان يفعل المتدينون وهم يجربون الموت بدخول القبر، أفكر في بناء وزارة ثقافة في بيتي كي يتيسر لي تجريب الموت بين الحين والآخر، لكن شقتي مستأجرة وليس بمقدوري فعل ذلك، وهذا يبدو هيناً حين تعرف أن مبنى وزارة الثقافة شبه مستأجر (فهو مبنى أمانة العاصمة القديم)، وهل تريد من الحكومة أن تبني مبنى خاصاً لوزارة الثقافة؟ ولماذا تكلف نفسها كل هذا العناء؟ أي مبنى "مستعار" يكفي ليكون قبراً يزوره المثقفون بين الحين والآخر ليجربوا الموت ويتنفسوه.
لكن وعلى طريقة أهل ذمار عندما شيعوا "الريال اليمني" سنشيع الثقافة اليوم إلى مقبرة خزيمة، أو بالأصح ننقل ضريحها الوزاري إلى هناك، هذه هي الفكرة اللامعة والمتفردة، فكرة صباحية ثقافية تقام اليوم في مقبرة خزيمة، هذا أهم حدثٍ ثقافي، هناك يمكنك أن تتأمل الموتى والحياة في الأسفل، أن تلتقي بالبردوني، وموتاك من العائلة.
أحمد الطرس العرامي
صحيفة الشارع_ الخميس_16_1_2013م

الصورة من الصباحية الثقافية الشعرية السردية  التي أقامها مثقفون يمنيون في مقبر ة خزيمة تعبيراً عن موت المؤسسة الثقافية...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق