Ads 468x60px

شعرية الحلم في ديوان (ليس يحضرني الآن)


شعرية الحلم في ديوان(( ليس يحضرني الآن))
أحمد الفراصي

     يقول أحد علماء النفس : ((إن الحلم ليس تكريراً لما يمر بنا في اليقظة من خير أو شر ومتعة أو تقزز .. ، بل العكس هو الصحيح، ، فالأرجح أن الحلم يرمي إلى تفريغ عقلنا من كل هذه الانطباعات كي يوفر لنا الراحة من عبء شحنات اليقظة بما فيها من خير أو شر ..)).
    تأسيسا على هذا الرأي هل يمكن القول أن لجوء الشعراء إلى الأحلام في أشعارهم ليوضحوا رؤاهم وأفكارهم هو تعبير عن التوق إلى التغلب على الهشاشة والتناقض الذَين ينطوي عليهما العالم الذي يقفون عليه ؟؟
     هل يمكن القول أن لجوئهم إلى الحلم يعكس توقهم وتعطشهم للكمال الذي لا يتحقق لهم في الواقع فيندمجون في الحلم ليشاركون الأشياء وجودها كما يتمنون ؟هل تعكس توقهم إلى العيش خارج العالم وخارج أنفسهم معاً جرّاء ما يرونه في عالمهم الواقعي من متناقضات تغلق عليهم ملكات الإبداع وتمنع عنهم حقهم من العيش بحرية بدون خوف من قيود الرقابة المدججة بالمنع والكف والمصادرة والإلغاء ؟؟
     هذه الأسئلة وغيرها تدافعت إلى ذهني وأنا أقرأ ديوان ((ليس يحضرني الأن )) للشاعر أحمد الطرس العرامي لاسيما قصيدة (( باب لاتراه الريح ))التي أيقظت في ذاتي هذه الأسئلة ودفعتني لجعلها مدخلا لاستنطاق مدلولات هذه القصيدة .
     وهي القصيدة التي اتخذت من صحبة الشجني ذريعةً لسرد متخيلها الشعري وما يحمله من هموم ورؤى ، وأفضت فيما بعد وهيأت لأجواء الدخول في طقس الحلم بعد أن تمفصل إلى عدة شذرات تدوينية حملت كل واحدة منها همّاً من هموم النص التي أفصح عنها صراحة في بدايته إجمالاً ثم بدأ بتفصيل القول فيها ، حيث يرد :
 (( في صحبة الشجني :/ ها إني أتيت ،/ أتيت فوق جناح قبرٍ عابرٍ/لم تأت أي حرائقٍ/في صحبتي /إلا القصيدة / وردة الشجني / قوس جهاته /موتاه/ قشرة حلمه/لبّ الغياب .))
     فالقصيدة((وردة الشجني ))تبحث عن لغةٍ شفافةٍ بكر يفتضّ منها الشاعر ويمتح كيف يشاء .وهموم البلاد المتمرئية بعين النص الباحث عن يوتوبياه الخاصة به. كذلك الغياب الذي شكل وجوده في الواقع علامة فارقة في حياة صاحبه .وهذه الهموم هي من هيأ للفرار إلى فضاءات الحلم الرحيبة التي خلع عليها النص كل تلك الإشكاليات العالقة في عالمه الواقعي . فكيف تشكل الحلم في النص  ؟؟
يبدأ الحلم بالآتي :
(( من آهة الشجني :/يخرج سرب أحلام ٍ/يحوّم في حنين الماء للأشياء /يترك قبلةً/في أسفل المعنى/ويهمس:/تلك كانت بصمتي .))
   هنا يقدم الحلم نفسه كنص ..في جمل متسلسلة من الإحساسات التي يتحول معها القول إلى متتالية مصبوغة باللذة أو بالانزعاج ,أو بنسبة متغيرة منهما معاً.. ذلك أن رغبة الحلم في النص تتحقق حين تجد طريقها إلى التعبير بوساطة((آهة الشجني)), وفعل الكلام ((التلفظ))الذي ((يحوّم في حنين الماء)) يقوم مقام هذه الأحلام , ويأتي حجةً على وجودها .وعندما يتم ((التحويم ))تكون بذلك قد أنهت مصيرها وأحرزت شكلآ واحداً من الإشباع . إنها إذاً محاولة أولية من قبل الذات الحالمة لإعادة اللغة إلى بكارتها الأولى حين كانت نقيةً شفافة شفافية الماء ، فتتصرف فيها كيف تشاء ويصبح لها مطلق الحرية في توليد دلالات جديدة للمفردات المتواطأ عليها سابقاً وتحويلها إلى دلات جديدة تلاءم الذات تماماً وتتفق وانفعالاتها التي تبحث لها عن موطأ قدم في هذا الزحام ((تلك كانت بصمتي )).
    ولوعي النص بأن الفكرة في حال الحلم تتشكل في صورة متحركة بعيدة عن رقابة الإرادة الواعية والإكراهات المادية ، وتفسح المجال للأصوات المتضاربة في الأعماق ؛فإنه يسرد الحلم على غير ترتيب منطقي لأحداثه على غير اهتمام بتشاكلٍ أو تجاورٍ في الدلالات ، حيث يرد:
      (( ويهبّ من ذكراه/بابٌ لا تراه الريح/يفتحه السؤال/عن الحبيبة:/كيف حطّ على غصون الماء/طائرها...؟/وأين ينام نهرٌ/كان يجري في سكوني/كنت أدعوه:ظفائرها...؟/وأين أنا ؟؟؟/ومن قصى دمي/من لحظة الشجني...؟؟/زجّ بضحكتي في عتمة الكلمات/والموتى ذئاب .
    في غفلةٍ من ضحكة الشجني:/طار اللوز،/حطّ اللون /وارتعش المدى المنقوع/في دوّامة (اللزاب)/وحدي../سوف أوصد/جرح هذا الباب/في وجه الصدى،/عمّاغريبٍ/سوف أدخل في حضورٍباذخٍ/ليمتدّ من أدنى احتضارات السنونو/في مواعيدي/إلى أقصى التراب. ))
     بلا شك أننا إذا أمعنّا النظر في هذه المتوالية الحلمية فسنكون قبالة نمطين حلميين: أما الأول فتنعكس على مراياه أحلامٌ قلقةٌ مشحونة بالأسئلة ((كيف، أين ،أين)) وملغومةٌ بالفزع والعتمة والكابوسية ((الموتى ذئاب))وهي جميعها تنتسب إلى الماضي ، ربما الماضي القريب جداً، وأما الآخر فيتحدث عن المستقبل ويجلو أحلاماً تبدو أكثر إشراقا ، لأنها تتحدث عن أماني الذات المتقدة بالتمرد والمسكونة بهاجس الإبداع المتميز والمتفرد((وحدي/سوف أوصد جرح هذا الباب/في وجه الصدى))لتنعكس من خلاله غائية الشعر وقدرة الكلمة على صناعة المستحيل .
   ومع ذلك فإن من يريد الربط الدلالي بين الحلمين سيجد أنهما يضجان بقرعات سياط الرقابة المدججة بالمنع والكف والمصادرة التي تحول بين الأماني والهواجس وتمنعهما من الظهور في عالم الوعي بل حتى أثناء الرقاد، وهذا ما تجلّى صراحةً في النص حينما قال :
     ((عمّا غريبٍ/سوف أدخل/في حضورٍ باذخٍ/يمتد من أقصى احتضارات السنونو/في مواعيدي/إلى أقصى التراب.))
     فهذا الحضور حضورٌ مخاتل هلامي غير واضح زمانياً أو مكانياً ، فهو غريب ومواعيده معطلة تنبئ بعدم الإيفاء بها ، لأنها مقرونة باحتضارات السنونو ووطأة التراب . من هنا فإن هذه الأحلام المؤجلة التي لا أمل لها في التحقق تدفعنا إلى الإحساس إن التساؤلات والرؤى التي طرحها النص الحلمي لا تنبئ برغبة الذات الحالمة في الخروج من الحلم وأجواؤه التي تجد فيها متنفسها الوحيد، بل إنها الطريقة المثلى للبقاء وإثبات الوجود . هذا بالنسبة للذات الحالمة أما بالنسبة للمتخيل التأويلي فإن هذه الأحلام قد فتحت النص على كل الاحتمالات التأويلية ،ولعل أبرزها هو التوق إلى الإفصاح عن الخطاب الفكري المتواري خلف سياط الإلغاء والرضوخ لأقفاص العتمة والخذلان. وهذا ما يؤكده النص ذاته حينما أسدل ستار بوحه بهذه المقطوعة :
     ((الآن قلت جميع ما عندي،/ولكن/ ليس يحضرني دمي /لأقوله وأطير.../.../..، /سوف أقص/خذا الجزء من رؤياي:/أوشك أن أطير إليك/يا أبتِ/فيخذلني الغياب. ))
     إننا في هذه الخاتمة الملبدة بالنفي والبتر وانتهاك أدق الخصوصيات(عدم القدرة على البوح بكامل الحلم)وحينما تكررت فيها عبارة العتبة النصية للديوان ((ليس يحضرني الآن)) فشكلت مقصلة البوح الشعري وسندانه ،لنستشف من النص تراجيديا المثقف العربي الذي يعكس عبر بوحه النازف واقعه الثقافي المأزوم بأدواته العاجزة عن انتشاله مما هو فيه من هزائم وعزاءات متلاحقة وتفاصيل الخراب الروحي التي تردى إليها من خلال فقدان كامل للثقة واليقين الذي حدا به إلى ما يشبه الاستسلام المفزع للضياع في الوقت الذي كان يرى في الإبداع قضية حياة ووجود لكنه وجود محكوم بالعدم والفناء . 

كلية الآداب جامعة ذمار
a.alfrassi@hotmail.com
مجلة الثقافة، وزارة الثقافة اليمنية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق