Ads 468x60px

تراسل المكان والجسد

"قراءة  في ديوان محاولة لتذكر ما حدث لهدى أبلان"
المكان هو وعاء الوجود الإنساني، ومسرح تحققه وظهوره...و منذ ولادة الإنسان يرتبط

وجوده بالمكان، ويظل يرافقه المكان إلى ما بعد الموت، إن مراحل حياة الإنسان حتى بعد موته لا بد أن تجسدها أمكنة تختلف في
العلاقة القائمة بينها وبين من تحتويهم... إذ أنه لا يمكن أن نتخيل وجود الإنسان خارج المكان، كما أنه لا يمكن أن نتخيل كيف سيكون وجود الإنسان في المكان وعلاقته به في غياب الجسد؟ هذا الكائن الحسي الذي يربطنا بالمكان ، ويربط المكان بنا ...ويكوِّن نوعية العرى القائمة بيننا..يسانده في ذلك الشعور الإنساني، والعاطفة البشرية، والتراكم والمواقف، وغيرها من الأشياء التي يمكن أن ترسم للمكان صورةً محددةً في أذهاننا، وتشارك في تحديد ماهية الشعور العاطفي تجاهه
"رأى بعض الأعراب ابنا له يختطّ منزلاً بطرف عصاه، فدنا منه، وقال:" أي بنيّ إنه قميصك، فإن شئت وسّعت، وإن شئت ضيّقت" وفي حركة الأعرابي تلك جملة من الحقائق المرتبطة بفلسفة المكان. قد لا نجد فيها – لأول وهلة – سوى إشارة إلى السعة والضيق الماديين. ويقف نظرنا عند البيت، وقد تفسّحت أرجاؤه، أو ضاقت أقطاره، وغدت حرجة تعوق الحركة و الانبساط. بيد أن التروي قليلا، وتجاوز المنزل إلى القميص، يكشف شيئا جديداَ  في معضلة المكان. مادام القميص ألصق الأثواب بجسد الإنسان، و ألوط  به. وكأن المنزل – وهو يكتسب خصوصية القميص – يصير امتدادا للجسد ذاته. يجد فيه نعت الانبساط السالف دلالة جديدة، تجعل راحة الجسد لا تقف عند حدود أعضائه، وإنما تمتدّ لتشمل المكان كلّه. بل وأكثر من ذلك، قد يكتسب المكان في أثر رجعي، من الجسد انبساطه الخاص، فتسري فيه أحاسيس صاحبه جيئة وذهابا، في تبادل عجيب يعطي للمكان حياة، يتعذر على النظرة العجلى استكناه أسرارها" .. ....فلسفة  المكان  في الشعر العربي، قــراءة موضوعاتــية جمالـــية. د. حبيب  مونسي. اتحاد الكتاب العرب.دمشق – 2001م. ص: (13)
وفي الإبداع الأدبي لا يمكن أن  يغيب دور المكان باعتباره البيئة، التي تغذي وتشكل الذات الإبداعية، وقد عد المكان أيضاً عنصراً من عناصر فن الرواية، إلا أن  المكان لا يتمظهر في الرواية وحسب وإنما يتجلى في كافة أشكال الكتابة، ولهذا فقد قمنا في هذه الورقة بمحاولة قراءة تمظهراته في ديوان "محاولة لتذكر ما حدث" للشاعرة هدى أبلان، كمقاربة سيميائية لا تقف عند كافة الدلالات والإيحاءات ولا تعنى بقراءة جميع علامات النص، بل اكتفت بقراءة علامة المكان وعلاقته بالجسد، كون هذه العلاقة من أهم الظواهر التي يلحظها القارئ المتمرس للمجموعة الشعرية، وهو يتتبع تجليات المكان في نصوص المجموعة، حيث يرتبط المكان بالجسد ارتباطاً وثيقاً، وتقوم بينهما علاقة تراسل وتجاور وتبادل، وتحاور....وقد اكتفينا من العلامات التي تشير إلى المكان بالبيت أو المنزل كونه أكثر تلك المؤشرات أو التمثلات حضوراً في المجموعة...فمنذ بداية الديوان، في نص بعنوان "محاولة لتذكر ما حدث" نقرأ هذا المقطع الذي تقول فيه الشاعرة:
في المكان الذي كان سقفاً ويدين
متراً من الحب
ليس أكثر من جرح تدلى باسم رب الظلام
ليس أكثر من مقعدين على صفحة الجمر
ليس أكثر من فنجان دمٍ
و منفضة
و امرأة مطفأة.ص:(5)
وهنا يختزل المكان في السقف الذي من أهم دلالاته دلالة الغطاء والحماية، يجاوره علامة من علامات الجسد، تمثلها لفظة (يدين)، واليدان من مكونات الجسد ودليل على الفعل والحركة، والاحتماء.... أو كأنهما يمثلان الأعمدة التي تحمل السقف، بل كأن اليدين هنا رمز للجسدين،  (الذكوري والأنثوي) في توافقهما وتناغمهما، واتساق حركتهما تحت هذا السقف، إن اتحدا وإلا فهما متحدان حتى في لحظات افتراقهما كون مقاصد حركتهما واحدة والمصادر المثيرة واحدة، والانتماء واحد، بالإضافة إلى الاشتراك في أداء العمل الواحد، ضمن جسد واحد يضمهما وينظم حركتهما، لكأنه هنا جسد معنوي هو المحبة، بدليل:(متراً من الحب) وكأنها اختزال للمكان في مساحة صغيرة هي التي من الممكن أن تضم الجسدين، وتجعلهما أكثر التصاقاً ببعضهما، ولكن هذه الدلالة سرعان ما تتغير، بل هي غائبة بدلالة انتمائها إلى الزمن الماضي، كما يشير إلى ذلك الفعل الماضي(كان) في بداية المقطع الشعري....فتبدو تلك الدلالة السابقة مجرد تمهيد، أو مدخل للدلالة المسيطرة على بقية النص، التي يتدلى فيها (الجرح) والجرح يمكن أن يكون جرح حسي في جسد حسي ، أو جرح معنوي في جسد معنوي، يرتبط بالمكان من حيث أنه يتدلى من أعلى، وكأنه ذلك (السقف)/الحماية الألفة...داخل المكان الذي تغير فأصبح مجرد آثار خراب(جرح، ومقعدين) توازيها الدلالات السلبية لكلٍّ من(رب الظلام، صفحة الجمر) ويتحول المتر من الحب الذي يجمع الجسدين، إلى مقعدين، كإشارة إلى انفصال الجسدين عن بعضهما...وتعلن الذات الأنثى عن انفصالها عن الآخر... بعد استهلاكها والتخلي عنها ونبذها ...(منفضة سجائر/وامرأة مطفأة)
غير أنه وفي نص آخر بعنوان (أشياء) تتجلى علاقة المكان بالجسد/الذات, بصورة أخرى:
كان لي بيت
وسرير من خشبٍ حالم
ووجع على الرف
وصنبور ذكريات
وجمرٌ أقلب عليه قلبي كلما داهمه البرد
وأدخنة كثيرة
لكني كنت بلا بابٍ
ولا نافذة.ص:(15)
تبدأ الصورة من الخارج، (بيت) ثم تتجه إلى الداخل/ داخل هذا البيت، عبر سرد محتوياته، (سرير خشب حالم/صنبور ذكريات/..)فحين تحاول الدلالة المراوغة إلا أنها تكاد تشير إلى مكان تسيطر عليه صفة الانغلاق على كل ما يقع خارجه، وإن حاول تجاوز ذلك من خلال الحلم في (سرير من خشب حالم) إلا أن العودة إلى الداخل تتجلى مرةً أخرى من خلال(وجع على الرف) بما في ذلك من دلالات الإهمال والانتظار، و(صنبور ذكريات) كونه من محتويات المكان/ البيت...خاضع للتحكم، ونسبية التدفق، ومحدوديتها، و(جمر أقلب عليه قلبي.....) فرغم انغلاق المكان/البيت إلا أنه لا يعد مصدر للدفء...على أن علامة الجمر يمكن قراءتها من جانب آخر على أساس أنها مؤشر سلبي على الاحتراق، بدلالة (وأدخنة كثيرة) التي تشي بضياع كبير...وأحلام مفقودة، إذ أنه لا أفعال تسبق ذلك تدل على الحركة، بل يسيطر الجمود والرتابة، والثبات على ما يبثه النص من دلالات، وكأن الأدخنة إشارة إلى الاحتراق والزمن المفقود والضائع..في ظل هذا المكان المغلق، الذي يتراسل مع الذات/ الجسد، ذات الأنثى وجسدها، حين تختم الشاعرة نصها الشعري، بقولها
 ولكني كنت
بلا بابٍ
ولا نافذة.
إذ أن الذات هنا كالمكان تماماً ذات مغلقة، داخل جسد مغلق، داخل مكان مغلق، وإن كانت أكثر انغلاقاً من المكان الذي يحتويها بدليل الاستدراك (لكني) وكأن هذه الأشياء التي لا تمتلكها الذات(الباب والنافذة) يمتلكها المكان، بالإضافة إلى أن دلالة (بلا) توحي بعدم امتلاك وخلو اليد... والفراغ، أو الافتقار.. الافتقار للباب والنافذة، بما يوحي به هذان الرمزان من دلالة كمنافذ للضوء والهواء، و حلقة وصل مع العالم الخارجي، بل لكأنهما هنا رمزان للهروب من هذا المكان المغلق الرتيب بأشيائه، والمغلق إلى درجة أن هذا الانغلاق يؤكده ويعزز حضوره في النص، غياب الآخر عن النص/المكان، أو المكان/النص، وبروز الأشياء الحسية المادية، في خضم الخارطة المكانية، التي وإن حضرت فيها الذات الأنثوية فإن حضورها حضور شبيه بالغياب، إذ أن الذات بحاجة إلى الآخر، لتأكيد وجودها، وتحققه الفعلي، بل ربما أنها لشعورها بحضور الآخر المتسلط الإقصائي، جعل اللاوعي يغيبه داخل النص، ويقصيه من فضائه، كرد على ممارسة الآخر فعل الإقصاء ضد الذات الأنثوية.
وقد يغدو الجسد نفسه هو المكان كما في هذا النص بعنوان(اقتلاع):
لماذا إذا نامت الريح
يصفر منفى تحت ردائي..؟ ص:(17)
ففي هذا النص قام كل من المكان والجسد بتبادل الأدوار، حيث غدا المكان جسداً، والجسد مكاناً، وهذا التراسل، أو التبادل بين الجسد والمكان يكاد يكون فيما يشبه العلاقة الإقصائية، إذ غاب الجسد لفظياً ليحل محله المنفى، كجسد مجازي، أو كاستعارة للجسد، والمنفى مكان يتجلى حضوره أو وجوده حين يغيب الوطن الأم، الوطن الحاضن، أو يتخلى عن دوره، الاحتوائي للجسد/ الذات، المنتمي/ المنتمية، إليه ...ويسلمه لمكان آخر هو المنفى، الذي يرتبط بالاغتراب، و(الاقتلاع) كما يشير إلى ذلك عنوان النص...اقتلاع الجسد ورميه خارج المكان الذي ينتمي إليه، والمرتبط بالألفة و المحبة والحرية...فكيف يصير الأمر حين يكون (المنفى تحت الرداء) حين يكون الجسد هو المنفى...نحمله معنا أينما ذهبنا.
وقد تتحول الذات أيضاً إلى منفى، وتبرز علاقة الذات بالمكان/ الحميم الأليف، مكان الانتماء، ومن ثم نشهد تحولها_أي الذات_ بتحول المكان...إلى درجة مطابقتها للمنفى..وتتخلى عن كونها ذات، بحاجة إلى مأوى أو وطن أو مكان حاضن، لتصبح منفى لنفسها...وتحمل طابع المنفى، الاغتراب الذاتي، داخل الذات نفسها في هذا النص:
ثمة رمل
كان بالأمس داراً مسقوفةً بالحلم
مسيجة بالدفء
مسكونة بصباحات أقدامها الحابية
حتى ارتعاشتها في الغروب
وحين انحنت جدرانها
استوينا على صفحة الأرض
يباباً
ومنافٍ بعيدة.ص: (48)
ففي هذا النص تتجلى صورة تحول المكان من حالته الطبيعية/ كمأوى و وسيلة احتواء، وأداة حماية، ومكان للدفء والمحبة، يتحول إلى خرابٍ، لكن النص ينقل لنا ذلك عبر مفارقة شعرية جميلة، فحين كان الخطاب الشعري يروي قصة المكان وكان المتلقي بانتظار أن يخبره النص عما حدث للمكان فإن  النهاية كانت مختلفة، أو مغايرة لما قد يدور في أفق توقع المتلقي، الذي سينتظر أن يعرف ما الذي حدث للمكان، ولكن النص لم يشر إلى ذلك إلا مجرد إشارة عابرة، ظرفية (حين انحنت جدرانها) أصبحت الديار خراب، لا إنها الذات نحن الذين أصبحنا خراباً
وهنا تكمن المفاجأة التي تصدم أفق التلقي،
(استوينا على صفحة الأرض
يباباً
ومنافٍ بعيدة.)
وكأن تدمير المكان مقدمة لتدمير الذات، بعبارة أخرى، وكأن نهاية الذات وتداعيها وانهيارها إنما هو نتيجة طبيعية، لانهيار المكان وتداعيه.
ولكن التدمير قد يأخذ دلالةً مخالفةً في سياق آخر يأخذ فيه المكان حيزه المختلف من الدلالة، كما في هذا النص الذي يحمل عنوان(مفارقة):
أنت هناك تبني بيتاً
وأنا هنا أهدم ذاكرة.ص: (14)
حيث تشير الجملة (أنت هناك تبني بيتاً) إلى الذكر المتسلط، إلى المجتمع  الذكوري، الذي ينظر إلى المرأة على أنها مجرد جسد يحاول دائماً أن يغلق هذا الجسد أو يغلق الأبواب عليه، ويغطيه ويحتويه، عبر السجن داخل الرداء أو البيت، ,,,بينما تشير (أنا هنا أهدم ذاكرة) إلى الذات الشعرية التي تنتمي إلى الأنثوية، أو إلى أيديولوجية خطاب أنثوي، مصدره الأنثى المقموعة المكتفة المحكومة بذاكرة ثقافية، ذكورية.. ترى أنها مجرد جسد... يجب أن يوضع في قفص، ولكن رؤية الأنثى هنا تأتي مغايرةً لم تعد مستسلمةً لهذا النظرة الذكورية، فبينما يحاول الرجل أن يغلق عليها ويسجنها،(يبني بيتاً) باعتبار البيت قد يكون علامة على سجن المرأة، الذي تربطها به النظرة  الذكورية  على أنه مكانها الأسمى والأفضل، والأنسب، وعليه فإن الأنثى تحاول الثورة على ذلك والتحرر من القيود التي يفرضها عليها ثقافة  المجتمع الذكوري  وذلك عبر تحطيم الجدران التي سجنها فيها(العمل في المنزل والبقاء فيه وعدم مغادرته) أو البقاء داخل سجن الجسد والغطاء الجسدي) فهي ترفضهما وفي رفضهما إشارة إلى التحرر ومحاولة هدم ثقافة ذكورية منغلقة و مؤطرة، يجسد هذا التحرر ويسانده ويتناغم معه، القالب الشعري الذي حمل هذا الخطاب الأنثوي المتحرر، من حيث أن النص الشعري منتج ثقافي مثله مثل أي منتج ثقافي ينتمي إلى المنظومة الفكرية، والثقافية نفسها، وهو ما يمكننا أن نقرأ النص قراءة أخرى في ضوء ذلك حيث يغدو (بناء البيت) الأسري، موازياً لبناء البيت الشعري، من قبل الرجل بجامع علاقة الانغلاق و التأطير بينهما، كونهما مقدمة ونتيجة في نفس الوقت لتفكير مؤطر، وقالبي، يقابل ذلك من جهةٍ أخرى ثورة المرأة التي يصدر عنها الخطاب الشعري، ثورتها على (البيت الأسري) و بممارسة حياتها كإنسانة خارج وداخل البيت، وتحطيم الأغلال القامعة للجسد، والثورة على (البيت الشعري) من خلال هدم الذاكرة الشعرية البيتية المغلقة المؤطرة بالوزن والمحكومة به، ومحاولة بناء ذاكرة شعرية جديدة سواءً عبر النص الشعري الأجد (قصيدة النثر) المتحررة من الوزن وقيوده...أو عبر اللغة الأنثوية، والكتابة المتحررة التي تجعل الأنثى تكتب عن جسدها محاولةً فرض خصوصيتها على النص الشعري، وذلك عن طريق ترك العنان لجسدها ليمتد ويبسط رداءه على النص، محاولة بذلك التقليص من سلطة الرجل حتى على  اللغة، وطغيانه على النص المبني على ذاكرة ذكورية، لا بد أن تتحرر الأنثى منها كما تدعو إلى ذلك رائدات الكتابة الأنثوية، وذلك سيتحقق من وجهة نظرهن عبر الكتابة بالجسد..أو بتعبير فرجينيا وولف(الكتابة بحليب الأم).
أحمد الطرس العرامي

هناك تعليق واحد: