Ads 468x60px

أحمد العرامي الشاعر الذي استفزني فطاوعته


بقلم: هشام عبدالله ورو


حقيقة عندما أعتزم الكتابة عن تجربة ما لا بد لي من التأثر أولاً بشخصية صاحب التجربة ولم أصادف أن قدمت تجربة تعاملت فيها مع نص سوى هذا الديوان الأبيض الذي دفعني أن أتعامل معه بتجرد أي أتعامل مع حروف وورق إنه ديوان (ليس يحضرني الآن ) للشاعر أحمد الطرس العرامي الصادر عن مكتبة البردوني العامة بذمار تلك المؤسسة التي بحق أعادت الاعتبار للثقافة في عاصمة الثقافة المعاصرة ذمار التي تمتلك كماً من المبدعين والمبدعات الذين يساهمون في إنعاش المشهد الثقافي اليمني ذلك المشهد الذي تعد مكتبة البردوني أحد مكوناته.
وبالعودة إلى الشعر والشاعر فإني حدثت نفسي كثيراً ماذا سأكتب عن شاعر بحجم هذه التجربة التي بين يدي لكني أجزم أني تجاوزت تلك الحيرة بأن أبدأ تأملاتي بالمرفأ الأخير للديوان الذي أثر في نفسيتي كثيراً كونه حاكى واقعاً قد يكون العرامي شاركني فيه دون ما يشعر:
الآن قلت جميع ما عندي,
ولكن:
ليس يحضرني دمي
لأقوله وأطير...
سوف أقص هذا الجزء من رؤياي:
أوشك أن أطير إليك
يا أبتِ
فيخذلني الغياب .
هذا هو لسان حال كل نفس ذاقت ولو للحظة فقدان أغلى شيء في الحياة وقد طرحه الشاعر بسلاسة جعلتني أشعر أن هناك جرح غائر وأعادت بي الذكريات إلى طفولة بريئة كنت أحلم أن تعود ولو لبرهة كي أتأمل وجه أبي لكن العرامي سامحه الله وحفظه نكأ هذا الجرح :
أوشك أن أطير إليك يا أبت فيخذلني الغياب .
إنها لغة القلب وليست لغة الشعر وحده ,اعترف أني أمام تجربة رمزية تعيد تفاصيلها في كل مرور كريم فهناك ما يوحي بقضايا عدة عمد الشاعر إلى الاختباء فيها في صورة فنان تشكيلي أطلق لريشته العنان متحدياً لغة الصورة ليضرب في الرمزية بعدها ففي تصويره لوجوه الأصدقاء تشعر أن الشاعر يعاني من قضية ما في هذا المنظور لكنه لم يصرح به من أول وهلة بل اختبأ ومشى في حافة الشعر حتى لا يصطدم بالتقرير ليجد نفسه وصل بأمان إلى قلب المتلقي دون عناء فما أروع تلك المحاكاة لوجوه أصدقائه:
الأصدقاء العابرون سبيل مرآتي
على مهلين
يدخرون رمل الحرف والحجر الملائم
للهروب من التورطـ فجأة ـ.........إلخ
أي مرآة رأيت بها وجوه أصدقائك هل هي مرآة الانتظار لزمن القبح أم هي المعاناة التي لازمتك من تلك الوجوه التي ألبستها أحذية الموت وهذه صورة لم استوعب مداها أيها الصديق العزيز لكني أجزم أنك تتحدث عن صداقة من نوع جديد علينا كمشتغلين بالكتابة أن نبدلها إسماً جديداً كون اشتقاق الصدق لا ينطبق على ما حمله عنوانك القصيدة ,ويكفيني دفقتك الذاتية التي حملت كماً من الزفرات التي سمعتها وأنا أقرا هذا النص:
لا طعم للكلمات ,
مرٌ في فمي عسل الكتابة,
نكهة المعنى بلا معنى,
ورائحة الحروف كريهة جداً
ومالحة وجوه الأصدقاء.
حقيقةً وأنا أقلب صفحات هذا الديوان الأبيض كثيراًًً ما تستفزني العناوين فمثلاً عند محاكاة الشاعر لنفسه كشاعر مسه الشعر (إني مسني الشعر)لقد استفزني هذا العنوان حتى جعلني أرجع بذاكرتي إلى بعض القصص القديمة التي تصور الشعراء بالجنون تارةً وبالسحر تارةً أخرى وما إلى ذلك من الصفات التي أُلحقت قسراً بالشعر نتيجة لأحداث ما على الرغم من أن الشعر ظل الرسالة الخالدة وهو الذي أبقى على حياة الشعراء مئات السنين وأعتقد أن أحمد العرامي هو من بين الشعراء الذين لن يموتوا على الرغم من تكراره لكلمة الموت في نصوص الديوان كثيراً لكني أجزم أنه سيخلد خلود المتنبي الذي مازال حياً بشعره حتى اليوم:
علمت قلبي أن يناغي نجمة الشعراء ,
أن يقضي مساء الوجد
منتظراً بزوغ الماء..
تدرون أني كتبت بزوغ الفجر ولم أدرك أني أخطأت إلا وأنا أراجع الكتابة فهي في النص بزوغ الماء وأريد أن أقول لشاعرنا متى يبزغ الماء وفي أي وقت إنها أخيلة الكبار
ودهشة الصورة التي تقف بالمتلقي متسمراً بقدميه حتى لا يتجاوز النص إلا بعد أ يقرأه أكثر من مرة .
عشرون عاماً مر على وفاة أبي ولم أستطع رثاؤه بمقطع واحد ولكني أجزم أن الشاعر احمد العرامي كان عزائي الوحيد فقد رثيت أبي بنصه الذي جعلني أنكسر أمام ذكرى فراق أبي وأيام اليتم القاسية التي ما زلت أشعر بها إلى اليوم ما أجمله وهو يناجي أباه بهذا المقطع المؤثر جداً:
أبتاه...
من سيضمني .
......
أبتاه
ما ذنب القصيدة؟
والقصيدةُ
كلما مدت يديها لي
مددت لها جراحي.
لم يكن بمقدوري الإبحار أكثر فديوان كهذا أكبر من أن تسعه مساحة هذه التأملات وأعترف أني كنت أخوض في معركة غير متكافئة مع صاحب تجربة أكبر من أن تستوعبها تأملاتي التي أتمنى أن تكون فاتحة لقراءات عدة في نصوص هذا الديوان المفعمة بالشاعرية وأجزم أن الشاعر أحمد العرامي شاعر القصيدة الحديثة بامتياز وصاحب المدرسة التي جمعت بين الحداثة في الشكل الشعري والتمسك بجزالة المعني الذي يسري في سلسبيل من العذوبة والشجن التي جعلت من حروف الديوان نبضات قلب ذلك الشاعر المفعم بوجدان صادق و قبل أن أختم هذه التأملات أهنأ الشاعر على انتقائه البديع لتلك العناوين التي لو جمعت لشكلت قصيدة حداثية راقية ففيها من الرمزية والصورة الشعرية ما يجعل تلك العناوين فاتحة مهمة لمسامات هذا العمل الشعري الكبير .

26/1/2011
م